الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قرأ نافع {بِخَالِصَةٍ} بغير تنوين على معنى الإضافة.وقرأ الباقون مع التنوين.وروي عن مالك بن دينار أنه قال: نزع الله ما في قلوبهم من حب الدنيا، وذكرها، وقد أخلصهم بحب الآخرة، وذكرها.ومن قرأ {بِخَالِصَةٍ} بالتنوين، جعل قوله: {ذِكْرَى الدار} بدلًا من خالصة.والمعنى: {إِنَّا أخلصناهم} بذكر الدار، والدار هاهنا دار الآخرة.يعني: جعلناهم لنا خالصين، بأن جعلناهم يكثرون ذكر الدار، والرجوع إلى الله تعالى.ثم قال عز وجل: {وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الاخيار} يعني: المختارين للرسالة، الأخيار في الجنة.ثم قال: {واذكر إسماعيل} قال مقاتل: واذكر صبر إسماعيل، وهو أشمويل بن هلفانا.وقال غيره: هو إسماعيل بن إبراهيم.يعني: اذكر لقومك صبر إسماعيل، وصدق وعده {واليسع وَذَا الكفل} واليسع كان خليفة إلياس، وذا الكفل كفل مائة نبي أطعمهم، وكساهم، {وَكُلٌّ مّنَ الاخيار هذا ذِكْرُ} يعني: هذا الذي ذكرنا من الأنبياء عليهم السلام في هذه السورة {ذُكِرَ} يعني: بيان لعظمته {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ} من هذه الأمة {لَحُسْنَ مَئَابٍ} يعني: حسن المرجع.ثم وصف الجنة فقال عز وجل: {جنات عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابواب} يعني: تفتح لهم الأبواب فيدخلونها.يعني: الجنة كما قال تعالى في آية أخرى: {وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَرًا حتى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أبوابها وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سلام عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خالدين} [الزمر: 73] فإذا دخلوها، وجلسوا على السرر، وكانوا {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بفاكهة كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} يعني: ألوان الفاكهة، والشراب {وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف} يعني: غاضات أعينهن عن غير أزواجهن {أَتْرَابٌ} يعني: ذات أقران.أي: مستويات على سن واحد {هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحساب} يقول: {إِنَّ هَذَا} يعني: إنّ هذا الثواب الذي توعدون بأنه يكون لكم في يوم الحساب.وقرأ ابن كثير، وأبو عمر، بالياء على معنى الإخبار عنهم.وقرأ الباقون: بالتاء على معنى المخاطبة.يقول الله تعالى: {إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا} يعني: إن هذا الذي ذكرنا لعطاؤنا للمتقين {مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} يعني: لا يكون له فناء، ولا انقطاع عنهم، وهذا كما قال تعالى: {لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 33] ثم قال: {هذا} يعني: هذا الرزق للمتقين فيتم الكلام عند قوله: {هذا}.ثم ذكر ما أوعد الكفار فقال عز وجل: {هذا وَإِنَّ للطاغين لَشَرَّ} يعني: للكافرين، لبئس المرجع لهم في الآخرة.ثم بيّن مرجعهم فقال عز وجل: {جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا} يعني: يدخلونها {فَبِئْسَ المهاد} يعني: فبئس موضع القرار {هذا فَلْيَذُوقُوهُ} يعني: هذا العذاب لهم {فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} وهو ماء حار قد انتهى حرّه.قرأ حمزة والكسائي، وحفص {غسَّاق} بتشديد السين وقرأ الباقون: بالتخفيف.وعن عاصم روايتان.رواية حفص بالتشديد، ورواية أبي بكر بالتخفيف.فمن قرأ بالتشديد فهو بمعنى سيال، وهو ما يسيل من جلود أهل النار.ومن قرأ بالتخفيف جعله مصدر غسق يغسق غساقًا.أي: سال.وروي عن ابن عباس، وابن مسعود، أنهما قرآ {غساق} بالتشديد، وفسراه بالزمهرير.وقال مقاتل: {الغساق} البارد الذي انتهى برده.وقال الكلبي: الحميم هو ماء حار قد انتهى حره.وأما غساق فهو الزمهرير يعني: برد يحرق كما تحرق النار وقال بعضهم: الغساق: المنتن بلفظ الطحاوية ثم قال عز وجل: {وَغَسَّاقٌ وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ أزواج} يعني وعذاب آخر من نحوه يعني من نحو الحميم والزمهرير.قرأ أبو عمر، وابن كثير، في إحدى الروايتين {وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ} بضم الألف.وقرأ الباقون: {وَأَخَّرَ} بالنصب فمن قرأ بالضم فهو لفظ الجماعة، ومعناه: وأنواع أخر ومن قرأ: {وَأَخَّرَ} بنصب الألف بلفظ الواحد، يعني: وعذاب آخر من شكله أي: مثل عذابه الأول {أزواج} يعني: ألوان {هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} يعني: جماعة داخلة معكم النار.يقال: اقتحم إذا دخل في المهالك، وأضلوا الدخول.تقول الخزنة للقادة: وهذه جماعة داخلة معكم النار، وهم الأتباع {لاَ مَرْحَبًا بِهِمْ} يعني: لا وسع الله لهم {إِنَّهُمْ صَالُو النار} يعني: داخل النار معكم فردت الأتباع على القادة {قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَبًا بِكُمْ} يعني: لا وسع الله عليكم {أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} يعني: أسلفتموه لنا، وبدأتم بالكفر قبلنا، فاتبعناكم {فَبِئْسَ القرار} يعني: بئس موضع القرار في النار.قوله عز وجل: {قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا} الأمر هذا الذي كنا فيه {فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا في النار وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الاشرار} يعني: فقراء المسلمين.قوله عز وجل: {أتخذناهم سِخْرِيًّا} قرأ حمزة، والكسائي، وأبو عمرو، {سِخْرِيًّا أتخذناهم} بالوصل.وقرأ الباقون: بالقطع فمن قرأ بالقطع، فهو على معنى الاستفهام بدليل قوله: {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الابصار} لأن {أَمْ} تدل على الاستفهام.ومن قرأ: بالوصل، فمعناه: أنا {أتخذناهم سِخْرِيًّا} وجعل {أَمْ} بمعنى بل.وقرأ حمزة والكسائي ونافع {سِخْرِيًّا} بضم السين.وقرأ الباقون بالكسر.قال القتبي: فمن قرأ بالضم، جعله من السخرة.يعني: تستذلهم.ومن قرأ بالكسر فمعناه إنا كنا نسخر منهم.ثم قال: {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الابصار} يعني: مالت، وحادت أبصارنا عنهم، فلا نراهم.قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} يعني: يتكلم به أهل النار ويتخاصمون فيما بينهم.{قُلْ} يا محمد {إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ} يعني: رسول أخوفكم عذاب الله تعالى، وأبيّن لكم، أن الله تعالى واحد {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله الواحد القهار} يعني: قاهر لخلقه {رَب السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا العزيز} بالنقمة {الغفار} للمؤمنين.قوله عز وجل: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} يعني: القرآن حديث عظيم، لأنه كلام رب العالمين {أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} يعني: تاركون، فلا تؤمنون به.وقال الزجاج: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} يعني: قل إن النبأ الذي أنبأتكم عن الله عز وجل {نَبَأٌ عَظِيمٌ} فيه دليل نبوتي مما ذكر فيه من قصة آدم عليه السلام، فإن ذلك لا يعرف إلا بوحي، أو بقراءة كتب، ولم يكن قرأ الكتب.ثم قال: {مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الاعلى} يعني: الملائكة عليهم السلام {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} يعني: يتكلمون حين قالوا: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنِّي جَاعِلٌ في الأرض خَلِيفَةً قالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] وإنما عرفت ذلك بالوحي.{إِن يوحى إِلَىَّ} يعني: ما يوحي إليَّ {إِلاَّ أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} إِلاَّ أَنا رسول بيّن.ثم قال عز وجل: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّى خالق بَشَرًا مّن طِينٍ} يعني: آدم {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} يعني: جمعت خلقه {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} يعني: وجعلت الروح فيه {فَقَعُواْ لَهُ ساجدين} يعني: اسجدوا له {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} يعني: سجدوا كلهم دفعة واحدة {إِلاَّ إِبْلِيسَ} أبى عن السجود {استكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} يعني: وصار من الكافرين {قَالَ يَا إِبْلِيسَ} ما منعك يعني: يا خبيث {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} يعني: الذي خلقته بيدي قال بعضهم نؤمن بهذه الآية ونقرؤها، ولا نعرف تفسيرها.يعني: قوله: {بِيَدَىَّ} يعني: الذي خلقت بيدي.وقال بعضهم: تفسيرها كما قال الله تعالى: {خَلَقْتَهُ بِيَدَىَّ}.ولا نفسر اليد.ونقول: يد لا كالأيدي.وهذا قول أهل السنة والجماعة.وقال بعضهم: نفسرها بما يليق من صفات الله تعالى.يعني: خلقه بقدرته، وقوته، وإرادته.فإن قيل: قد خلق الله عز وجل سائر الأشياء بقوته، وقدرته، وإرادته.فما الفائدة في التخصيص هنا؟ قيل له: قد ذكر اليد في خلق سائر الأشياء أيضًا، وهو قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أنعاما فَهُمْ لَهَا مالكون} [يس: 71] ويقال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} أي: بقوتي.قوة العلم، وقوة القدرة.ويقال: {خَلَقْتَهُ بِيَدَىَّ} أي: بماء السماء، وتراب الأرض، كقوله: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] وكما قال عليه السلام: «خَلَقَ الله تَعَالَى الخَلْقَ مِنْ مَاءٍ» وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل حرف منها ظهر وبطن.وكذلك الأخبار قد جاء فيها أيضًا ما له ظهر وبطن.وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لاَ تَقُولُوا فَلاَنٌ قَبِيح فَإِن الله عز وجل خلق آدم عَلَى صُورَتِهِ».ومن قال: إن لله تعالى صورة كصورة آدم فهو كافر، ولكن المعنى في الخبر، ما روي عن بعض المتقدمين أنه قال: إن الله تبارك وتعالى اختار من الصور صورة، وخلق آدم عليه السلام بتلك الصورة، فمن ذلك قال: «إنَّ الله تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُوَرتِهِ» أي: على تلك الصورة التي اختارها الله.روى شبل عن ابن كثير أنه قرأ: {بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ} موصولة الألف، وقراءة العامة بقطع الألف على الاستفهام، بدليل قوله عز وجل: {أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} ومن قرأ موصولة، فهو على معنى الوجوب.وتكون {أَمْ} بمعنى بل، {أَسْتَكْبَرْتَ} يعني: تعظمت عن السجود {أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} يعني: بل كنت من العالين، من المخالفين لأمري.{قَالَ} إبليس: {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}.قوله عز وجل: {قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إلى يَوْمِ الدين قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} وقد ذكرناه من قبل {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين قَالَ فالحق والحق أَقُولُ} يقال: معناه قولي الحق.وأقول: الحق.قرأ حمزة وعاصم {فالحق} بالضم القاف.وقرأ الباقون، واتفقوا في الثاني أنه بالنصب.فمن قرأ بالضم فمعناه: أنا الحق، والحق أقول.ويقال: فمعناه: فالحق مني، والحق أقول.ويقال: معناه فقولنا الحق، وأقول الحق {لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} ومن قرأ بالنصب فهو على معنى الإغراء.يعني: الزموا الحق، واتبعوا الحق.ثم قال: {والحق أَقُولُ} يعني: وأقول الحق كقوله عز وجل: {والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَآ أَبَدًا وَعْدَ الله حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا} [النساء: 122].ثم قال عز وجل: {لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} يعني: من ذريتك، وممن تبعك في دينك.{قُلْ} يا محمد {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} يعني: على الذي أتيتكم به من القرآن من أجر، ولكن أعلمكم بغير أجر {وَمَا أَنَا مِنَ المتكلفين} يعني: ما أتيتكم به من قبل نفسي، وما تكلفته من تلقاء نفسي، {إِنْ هُوَ} يعني: ما هذا القرآن {إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين} يعني: إلا عظة للجن، والإنس، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ} يعني: خبر هذا القرآن أنه حق بعد حين.يعني: بعد الموت.ويقال: بعد الإسلام.ويقال: بعد ظهور الإسلام، والله أعلم بالصواب. اهـ.
|